بداية دير القديس أنبا مقار
انحدر القديس مقاريوس من شمال وادي النطرون إلى أقصى جنوبه بعد أن اكتظت المنطقة الشمالية بالمتوحدين وكان قد ابتنى لهم كنيسة وترك لهم تلميذه بفنوتيوس يدبر حياتهم. وكان ذلك حوالي سنة 360م. حينما كان عمره قد بلغ الستين عاماً.
وهنا في جنوب الوادي وعلى طرف السطح الصخري حفر لنفسه مغارة ذات سرداب طويل ينتهي بمغارة أخرى سرية يلتجئ إليها، ليتحاشى مقابلة الزائرين، لأنه كان محباً للوحدة والسكون إلى أقصى حد (قد عثر الدير أخيراً على مغارة القديس ذات السرداب ).
ولكن سرعان ما تكاثر تلاميذه وتجمعوا في مجموعات وبنوا مساكن متفرقة تدعى "منشوبيات" وهي كلمة قبطية تفيد معنى السكن التجمعي أو الفردي. وقد بدأوا فرادى ثم ازداد عددهم جداً حتى صاروا عدة ألوف.
وكان لا يجمعهم معاً إلا حضور الكنيسة الأسبوعي في يومي السبت والأحد لسماع التعليم والتناول من القربان المقدس.
أهم المعالم الأثرية في دير أنبا مقار ...
كان همنا الأول أثناء عمارة الدير وترميمه الحفاظ على كل أثر قديم في الدير مهما قلَّت قيمته، بل وقد اكتشفنا أثناء الحفر وأثناء إزالة الجدران الحديثة بعض الأجزاء المعمارية والقطع الرخامية الأثرية القيمة التي كانت مطموسة داخل الأسوار أو خلف الطبقات الحديثة من البياض الجبسي السميك أو تحت التراب.
فمثلاً عند دخولك الدير ونزولك على السلالم الكبيرة للوصول إلى كنيسة أنبا مقار ستعبر من تحت قوس أثري عظيم من الطوب الأحمر الجميل، وهو عبارة عن مقوصرة arch ضخمة، كانت هي المدخل البحري القديم لكنيسة أنبا مقار فيما قبل القرن التاسع، ويرجح أنها من القرن السابع لأنها على نمط مقوصرة هيكل أنبا بنيامين الذي أُقيم في زمان البابا بنيامين (البطريرك 38) في منتصف القرن السابع، أي يقدر عمرها بأكثر من 1300 سنة. وقد عثرنا عليها أثناء إزالة طبقات السور الذي بُدئ ببنائه وتعليته حول الكنيسة منذ القرن الرابع عشر، وما أُضيف على هذا السور من طبقات ساندة أخرى خارجية ملاصقة بُنيت في القرون الحديثة، نظراً لتداعيه بسبب إقامة مراحيض تحته مباشرة.
ولقد بذلنا مجهوداً فنياً لا يُصدَّق إستغرق ستة أشهر حتى استطعنا أن نحصر هذا القوس الأثري العظيم المتداعي في كل أجزائه، نحصره بطبقة حاملة من الخرسانة المسلحة من أسفله ومن أعلاه، ونضمه من جانبيه بدعامتين من الخرسانة المسلحة ذات مدادات أرضية وكتفين من الحجر الضخم لحفظ توازنه، بعد أن كشفناه من كل ناحية وفرغنا داخله من المباني التي كانت تسده. هذا الأمر الذي لما اطلع عليه مهندسو الآثار تعجبوا كيف وقف لنا هذا القوس طائعاً مستسلماً وهو متهالك، ثم كيف ضبطناه هكذا بهذه القوة. ولكن السر في هذا وفي غيره، كانت الصلوات الكثيرة التي قدمناها لله من أجل انفتاح البصيرة والمعونة الإلهية.
(1)كنيسة أنبا مقار :
أ- هيكل أنبا مقار
أثر خالد بدأت نواته الأولى سنة 360م جذب إليها الأجيال المتلاحقة، والذي منه انطلقت إلى السماء مئات الألوف من النفوس التقية لتكميل شهادتها للمسيح في السماء بعد أن شهدت في الأرض.
أُعيد بناؤها في أيام البابا بنيامين (البطريرك 38) في زمن دخول العرب، ودشنها هذا البابا بدعوة من شيوخ البرية سنة 655م، ولا يزال هيكلها الكبير المعروف بهيكل أنبا مقار بقبته الضخمة قطر 8متر على طوبة واحدة، ويدعى أيضاً باسم "هيكل أنبا بنيامين" منذ يوم دشنه حتى اليوم. ولكن قبته تساقطت عدة مرات ورُممت عدة مرات، والناظر إليها بتدقيق يستطيع أن يعد مرات السقوط والترميم لاختلاف لون "المونة".
والكنيسة الآن لا تحمل من أجزائها الأثرية الأولى سوى هيكل أنبا بنيامين وهيكل يوحنا المعمدان (أو مارمرقس) فقط.
- هيكل يوحنا المعمدان (أو مارمرقس)
سمى كذلك لأن جسد يوحنا المِعمدان الذي حُمل من فلسطين في أيام القديس أنبا أثناسيوس الرسولي، ودُفن في الإسكندرية، ثم نُقل منها ودُفن في دير أنبا مقار أيام الإضطهاد. وقد عثرنا أثناء حفر أرضية الخورس الأول وأمام هذا الهيكل وعلى مسافة تحت الأرض على قبو من الطوب القديم وتعمقنا أسفله فوجدنا هذه الرفات الطاهرة ورفعناها مع باقي عظام أخرى وتابوت به هيكل جسدي كامل. وقد أصدر الدير تقريراً وافياً تفصيلياً عن هذا الكشف الأثري وكافة الدلائل التاريخية القديمة.
ولما حُملت رأس القديس مارمرقس ودُفنت في هذا الهيكل، حملت الكنيسة كرامة رسولية من ذلك التاريخ وسميت بالكنيسة الجامعة. وأصبح إسم مارمرقس يتبادل مع إسم يوحنا المعمدان لهذا الهيكل.
والباحث المدقق يلاحظ تلازم وجود جسدي يوحنا المعمدان ومارمرقس الرسول في هيكل واحد في دير القديس أنبا مقار، يرادفه توارد هذين الإسمين الكريمين في القداس في بداية المجمع، مما يشير إلى أن "المجمع" من وضع رهبان دير القديس أنبا مقار.
ولا تزال الصور الرائعة التي زُيِّن بها هيكل يوحنا المعمدان تحتفظ بألوانها الزاهية ودقتها المتناهية رغم سقوط قبته وبقائه في العراء عدة مئات من السنين.
ج- أجساد القديسين
(1) أجساد المقارات الثلاث وأنبا يؤانس القصير:
أما المقارات الثلاث فهم: المصري المدعو بالكبير، والإسكندراني، المدعو بالمدني (نسبة إلى المدينة العظمى الإسكندرية)، وأسقف ادقاو الشهيد (ادقاو مدينة بجوار أسيوط).
وتُرسم هذه الشخصيات المكرمة في الأيقونات الأثرية هكذا:
- أنبا مقار الكبير المصري حاملاً صليباً (رمز الجهاد والإماتة وبذل الذات).
- أنبا مقار الإسكندراني حاملاً سلماً (رمز شغفه باقتناء الفضائل على درجات).
- أنبا مقار أسقف ادقاو حاملاً على ذراعيه حَمَلاً صغيراً (باعتباره راعياً وباعتباره شهيداً سيق إلى الذبح كسيده لذلك ترسم ثيابه بيضاء اللون).
وقد أجرى الله معجزات كثيرة بتشفعات هؤلاء القديسين على مدى العصور والسنين حتى يومنا هذا.
أما جسد أنبا يؤانس القصير، فقد تم نقله إلى مقصورة خاصة به في كنيسة الشهيد أبا سخيرون، والقديس يؤانس القصير هو إبن أنبا مقار من الرعيل الثاني، ورئيس جماعة الرهبان العظيمة التي كانت تتبعه. وكان مشهوراً بإتضاعه وأبوته الحكيمة. ومقر رهبانيته كان جنوب غرب دير أنبا مقار بمقدار 15 كيلومتراً. ولما تخرَّب ديره نقلوا جسده إلى دير القديس أنبا مقار.
(2) أجساد البطاركة:
وعددهم بحسب جدول البطاركة ما يقرب من ستة عشر من البابوات وكلهم رهبان الدير أصلاً، وقد أوصوا بدفن أجسادهم في ديرهم، لا تعصباً للمكان ولكن تفاؤلاً بقربهم من شفيعهم وأبيهم الأول، وحنيناً منهم إلى موطن جهادهم ودموعهم وسهرهم في شبابهم "لأن عبيدك قد سُرُّا بحجارتها وحنوا إلى ترابها" (مز 102: 14).
وكانت الأجساد - سواء التي للشهداء التسعة والأربعين أو البطاركة - في العصور الأولى إلى ما قبل القرن الثالث عشر خارج أسوار الدير فيدير صغير لهم بقرب دير زكريا (أنظر كتاب طبخ الميرون)، ولكن بعد أن تجمع الرهبان داخل الأسوار أدخلوا الأجساد معهم وظلت تنتقل من مكان لمكان إلى أن قمنا بجمعها معاً في مقصورة واحدة في الخورس الثاني لكنيسة أنبا مقار. ويبدو أن هذا المقصورة كانت في السابق مبنية لهذا الغرض لأن موقعها هو فوق القبو تحت الأرض الذي عثرنا فيه على عظام أليشع النبي ويوحنا المعمدان، كما وجدنا تابوتاً كاملاً لجسد محنط كامل مدثراً في ملابس الخدمة.
كنيسة الشهداء التسعة والأربعين شيوخ شيهات:
من حيث المبنى كانت في الأصل جزءً من الأجزاء الغربية لكنيسة القديس أنبا مقار، أما من حيث المحتوى، فقد جمعت جواهر ثمينة لا تقدر بمال.
فهذه الكنيسة تحمل ذكرى إيمان حي وشهادة بسفك الدم، هو ميراث للدير أثمن من الذهب الفاني!!
في الغارة الثالثة على الدير، لما هجم عربان البادية على الرهبان، هرب معظمهم وتحصنوا في الجوسق - أي الحصن - ورفعوا السقالة. ولكن تسعة وأربعين من الرهبان القديسين تشجعوا بالإيمان وقهروا الخوف ورفضوا النجاة مع رئيسهم العظيم المكرم أنبا يؤانس القمص، ووقفوا باستعداد تقديم الشهادة، فلما طُلبت قدموا رقابهم سهلة طائعة للسيوف اللامعة دون أدنى إنزعاج، لأنهم رفضوا النجاة بغية قيامة أفضل وحياة أفضل ...
(3) قبة الميرون:
أثر جليل القدر يحكي عن ميرون دير القديس أنبا مقار، وكيف حلت به البركة على كل مولودي نساء مصر ومسحت به كل أباطرة الشرق (أثيوبيا بالذات) وكل أدوات الكنائس.
وقبة الميرون هي أصلاً من كنيسة القديس أنبا مقار الأولى، حيث موقعها هو فوق الكنيسة في الركن البحري الغربي، بنيت خصيصاً لتكون بمثابة عُلِّية، وبُدئ بتكريس الميرون فيها منذ أن نقل باباوات الإسكندرية مقر كرسيهم من الإسكندرية إلى دير القديس أنبا مقار بعد المجمع الخلقيدوني مباشرة، أي في نهاية القرن الخامس. وظل الميرون المقدس يُطبخ باحتفال عظيم ومهيب يحضره معظم الأساقفة تحت هذه القبة الطاهرة حتى منتصف القرن الرابع عشر، أي ظل ميرون مصر كلها يخرج من دير القديس أنبا مقار قرابة تسعة قرون متوالية، حيث صُنع آخر طبخة مقدسة للميرون على يد أنبا بنيامين الثاني سنة 1330م.
وكان ميعاد طبخ الميرون في العصور الأولى هو يوم الجمعة ختام الصوم الأربعيني، ولكن نُقل هذا الميعاد بعد ذلك وصار محدداً في الطقس بيوم خميس العهد، وهو يوم تأسيس سر الشكر (الإفخارستيا).
(4) كنيسة الشهيد أبَّاسخيرون:
(إسم أبا "سخيرون" معناه الأب القوي)
وهو شهيد قبطي، شفيع مقتدر، إستشهد في زمان اضطهاد دقلديانوس بعد أن تعذب من أجل الإيمان عذابات مريعة تفوق العقل والوصف حيث شُقت بطنه.
وهذه الكنيسة كانت أصلاً جزءً من كنيسة القديس أنبا مقار من الجهة القبلية، وكانت على الأرجح هيكل الثلاثة فتية القديسين. وقد رممت بعد سقوط كنيسة القديس أنبا مقار وصارت كنيسة قائمة بمفردها.
وكانت هذه الكنيسة متصلة قديماً بكنيسة أخرى قبلي الدير تسمى كنيسة المغبوط أريستوماخس التي استولى عليها جماعة الغيانيين المنشقين في وقت من الأوقات (سنة 535م).
وتهدمت كنيسة أبا سخيرون بعد ذلك ولم يبق منها إلا خورسها الغربي الذي رُمم وصار مائدة للدير. والمائدة القديمة الحالية هي جزء منها.
قبة أبا سخيرون الرائعة والباب الجميل:
هذه القبة هي إحدى روائع الفن المعماري، ومن أجمل الآثار في الدير، وهي من الطراز المسمى بالقبة الرباعية.
ويلاحظ أن القبة لا تتناسب في مركزها الهندسي مع مدخل الهيكل الأساسي المتوسط، مما يفيد أنها بنيت كرامة لهذا الهيكل بعد سقوط صحن الكنيسة. فالهيكل أقدم من القبة. وقد لوحظ أن المذبح المتوسط في الهيكل مغلق من جميع الجهات، ولم نشأ أن نفتحه، ويُعتقد أن به جسد الشهيد أبا سخيرون أو أحد الأجساد الكريمة الأخرى (حسب الطقس القديم جداً الذي يوصي بوضع أجساد الشهداء تحت المذبح).
وقد لاحظنا أثناء ترميم القبة التي فوق هذا الهيكل المتوسط أنها تشابه في الروح الهندسية وكثرة الفتحات المتناسقة قبة أنبا بنيامين، إنما على حجم أصغر، مما يزيد في إعتقادنا أنها من آثار القرن السابع.
الباب الجميل:
وهو الموجود بالخورس الأول من الجهة البحرية، وكان يفتح على صحن كنيسة أنبا مقار الأولى. ولكن بإقامة الجدار الفاصل، أصبح هذا الباب يحصر داخله غرفة صغيرة وكأنها مقصورة جميلة، رأينا أن نخصصها لجسد القديس يؤأنس القصير أحد أولاد أنبا مقار.
وقد صمم الباب بزخرفة دقيقة وبديعة من الطوب الطبيعي يلفت الأنظار. وهذا يزيد من اعتقادنا بان كنيسة أبا سخيرون الحالية بهيكلها وقبتها الرائعة تحمل ذكرى هامة كأثر خالد، مما حدا بالمهتمين بعمارة الدير حتى في العصور الوسطى إلى إعطاء أولوية العناية لهذه الكنيسة.
حوض زيت مسحة المرضى:
بالهيكل القبلي لكنيسة أبا سخيرون، وفي الناحية الشرقية البحرية من المذبح مصطبة بارزة وعليها حوض من الحجر شبه الرخام، وجدنا به طبقات متصلة من زيت زيتون متجمد بشدة (قاوم "الأجنة" عند محاولة رفعه). وقد علمنا من الطقس أنه حوض لزيت مسحة المرضى حيث كان طقس الكنيسة يحتم وجود زيت على المذبح أثناء تقديس الذبيحة، حيث يُقرأ عليه أوشية المرضى ثم يدهن به جميع المرضى في الكنيسة الذين كانوا يقيمون في بيت خاص يلحق بالكنيسة (البيمارستان)، ويجرى عليهم الصلاة والمسح بالزيت بعد كل قداس (أنظر قوانين القديس أثناسيوس).
ويعتبر هذا الأثر ذا قيمة طقسية كبيرة لأنه يحكي ترتيب الصلاة على زيت مسحة المرضى مع كل قداس كقانون.
(5) الحصن:
ويعرف قديماً باسم "الجوسق" أو "البرج" أو "القستلية" Castle
وهو من أقدم الآثار الهامة الموجودة بالدير، وأعظم وأضخم كافة الحصون الموجودة بالأديرة القبطية.
بُني بيد عزيزة مقتدرة. فهو من جهة مبانيه وهندسته وضخامة حجارته وسمك جدرانه وهيبة أقبيته وارتفاعه يكشف عن هوية بانية بلا أي مزيد من برهان، فقد بناه الملك زينون سنة 482م. على يد مهندسين أرسلهم لدير أنبا مقار خصيصاً لذلك، لما علم أن إبنته الأميرة إيلارية التي اختفت من قصره فجأة، قد التجأت إليه وترهبت فيه على يدي أحد تلاميذ أنبا مقار وعاشت متخفية بإسم الراهب إيلاري الخصي حتى ماتت. وقد أغدق الملك زينون بعد ذلك كثيراً على ذلك الدير وعلى كل أديرة مصر تكريماً لذكرى إبنته التي فضلت الحياة والموت مع رهبان مصر أكثر من التنعم في قصور الملوك.
والحصن من ثلاثة أدوار، يفصله عن السلالم المؤدية إليه سقالة متحركة كانت تُرفع بعد أن يلتجئ الرهبان إليه ويدخلون فيه.
القلالي القديمة:
وهي صف من القلالي قبلي هيكل أنبا بنيامين الحالي على الطقس الرهباني القديم، ولكنها ليست أثرية بالمعنى الصحيح فقد بنيت على أنقاض الهياكل القبلية التي تهدمت من كنيسة أنبا مقار، وهي هيكل أنبا مقار الذي بنى قبلي هيكل أنبا بنيامين، وهيكل أنبا شنودة الذي كان يليه من قبلي - وبعد أن أزيل صحن الكنيسة لهذه الهياكل أصبح من الممكن بناء هذه القلالي، وربما يكون ذلك في القرن الرابع عشر حيث يكون عمرها من عمر السور الشرقي الذي كان ملاصقاً لها.
والقلاية القديمة عبارة عن غرفة ذات قبو منخفض جداً، لها باب ضيق منخفض، وقد يكون لها شباك صغير أو لا يكون. ومن داخل هذه الغرفة المقببة غرفة أخرى ليس لها فتحات بالمرة تسمى "محبسة" Closet حيث يصلي الراهب وينام. وعلى العموم فالقلايات القديمة لها مميزات من جهة عدم تنعيم الجسد وإعطاء روح الفقر والمسكنة للراهب، ولها مضارها من جهة عدم كفاية التهوية والإنارة والشمس.
الغرفة العجيبة التي اكتشفناها أخيراً
وهي في نهاية صف القلالي القبو وملاصقة للسلم الجديد الذي أقمناه ليسهل الصعود إلى الحصن. وبالتحديد بحري الجدار لهذا السلم، حيث توجد فتحة مستديرة من الرخام المتقن، تؤدي إلى غرفة في باطن الأرض مبطنة بطبقة من المونة الشديدة التي تقاوم المياه، ومساحة هذه الغرفة 170سم×445سم×225سم إرتفاع. ويظن أنها كانت خاصة بتصريف مياه المعمودية التي كانت ملحقة بهيكل أنبا شنودة من قبلي (). على كل حال فكونها واقعة على إمتداد هياكل كنيسة أنبا مقار تكون وظيفتها هيكلية على أغلب الظن.
النهضة المعمارية والروحية الحديثة منذ سنة 1969
ما أن يخطو الزائر داخل الدير، وتقع عيناه على الكنائس والمنارة وأحواض الزهور والمباني الجديدة، حتى يحس للوقت أنه أمام حركة روحية فريدة في هذا الزمان.
وعلى نقيض ما يتصور الكثيرون عن الرهبنة، أنها أسوار حديدية، تحصر داخلها فتاة أو فتى أعطى ظهره للناس وللمجتمع، كأنه يعيش في عالم غريب عن البشر، يدرك الزائر أن رهبان هذا الدير قادرون على اقتحام الحياة وغلبتها، وعلى مواجهة المجتمع بمشاكله دون الغوص فيه. وهذا راجع إلى القوة الإلهية التي آزرت العمل والبناء والتجديد والتدبير الرهباني بصفة عامة، إذ استطاع الأب الروحي أن يقدم حلولاً واقعية للمعادلة الصعبة، التي هي المواءمة بين أصول الحياة الرهبانية كالتجرد والعفة والطاعة، وبين متطلبات جيل حديث تربي في عصر التكنولوجيا ودرس حتى المستوى الجامعي وما بعده أحياناً، وشغف بالمعرفة واللغات، يتوق أن يقدم نفسه كل يوم ذبيحة لله ويتطلع إلى خدمة الكنيسة والتعمق في تراثها المبعثر بين مكتبات العالم ومتاحفه. وكانت ثمرة هذا التدبير المُلهَم، هو القلاية الحديثة، والمكتبة، والمائدة الجديدة، وباقي المباني الأخرى الحديثة، مع بذل أقصى الجهد للإحتفاظ بالآثار القديمة والعناية بترميمها، نظراً لما تحويه من تاريخ مجيد يحكي عن إيمان صلب، استطاع أن يتحدى الزمن وعوامل الفناء، ويقف شامخاً وشاهداً على صدق الله والأمانة الروحية في الكنيسة القبطية.
لذلك يحس الزائر أنه يتحرك فعلاً بين أبنية تغطي ستة عشر قرناً من الزمان، يمتزج فيها الجديد بالعتيق في تآلف مذهل هو معجزة بحد ذاتها.
(1) قلاية الراهب: حافظنا في تصميمها على مبدأ التوحد الذي هو سمة الرهبنة القبطية، وبذلك تهيأ للراهب الإقامة فيها لأيام كثيرة دون حاجة مطلقاً للخروج أو الدخول، وقد تم تزويدها بالفتحات الكافية للتهوية والشمس والنور، مع دورة مياه كاملة على مجاري عامة تُصرف خارج الدير، ومكان مستقل للمطبخ، مع غرفة صغيرة - محبسة - أرضيتها من الخشب، ليتمكن الراهب من النوم على الأرض دون أن يتأذى جسمه مهما كان رهيفاً، ثم غرفة المطالعة والسهر، بمكتب ودواليب حائطية. ومن جهة الهدوء المطلوب روعي أن تكون كل قلاية منفصلة تماماً عن جارتها بفناء واسع من جهة، وسلم صاعد للأدوار العليا من جهة أخرى، كما أن السقف سميك يكاد يكون مزدوجاً في درجة عزله للصوت، وأغلب الأثاث المستعمل فيها ثابت ودائم لتفادي الحركة والضجيج.
وإذا أضفنا إلى هذا، الفصل الكامل بين أماكن الضيافة وبين قلالي الرهبان وما يتبعها من مباني الخدمات اليومية بما يكفل للدير استقلاله وحُرْمته، نكون قد هيأنا للراهب الإستقلال المطلوب الذي تستوجبه العبادة والصلاة والحياة الداخلية بحسب روح الإنجيل. وهذا هو جوهر الحياة الرهبانية الذي لم نفرِّط فيه مهما كلَّفنا غالياً.
قلاية الأخ المبتدئ:
وبحسب التقليد الرهباني تختلف احتياجات الأخ المبتدئ عن الراهب، إذ توصي تعاليم الآباء أن يهتم المبتدئ بقضاء أكبر وقت ممكن في خدمة المجمع الرهباني، وبذل المحبة، والتواضع، ليكتسب الفضائل التي تهيئه للوحدة بعد ذلك، مثل إماتة الذات والطاعة الكاملة وحفظ الوصية وسط ضجيج العمل. كما أنه غير مُطالَب إلا بالصلوات القانونية والمطانيات في قلايته. لذلك تمَّ تخصيص المباني الغربية والجنوبية لحجرات المبتدئين، نظراً لقربها من أماكن الخدمات العامة في الدير.
وقد تم إنشاء ما يقرب من مائة قلاية من النوع الأول وأربعين من النوع الاخر.